ـــــــــــــــــــ * * * ـــــــــــــــــــ
ـ Atheer FM/ تقرير: أحمد عوضه
.
بعد عناء تكبده حامد مصلح (42 عامًا) في علاج والدته المصابة بسرطان الغدد اللمفاوية في صنعاء، دون تحسن ملحوظ بسبب تدني مستوى الخدمات الطبية والعلاجية في اليمن، نتيجة تبعات الحرب التي أصابت مجمل القطاعات في البلاد.
في وضعٍ كهذا، وجد حامد نفسه أمام خيار وحيد؛ قرر السفر إلى خارج اليمن لعلاج والدته آملًا في شفائها، ومن هنا بدأت الإجراءات الأكثر مشقة التي كان الحصول فيها على جواز لوالدته المريضة أصعب من احتمال شفائها.
يقول حامد: “حين قررت الذهاب بوالدتي إلى عمّان (الأردن) بسبب تدهور حالتها الصحية وعدم نجاح أي علاج في اليمن، لم يعرقلني إلا عدم وجود جواز لي ولوالدتي، لذا عزمت على لسفر الى مدينة عدن لكي أحصل على الجواز الذي سيكون منفذ ينقذ امي من مرضها المستعصي، وهنا بدأتْ رحلة الموت التي دفعتُ ثمنها موت أمي انتظارًا للخروج من اليمن”.
يضيف -والعبرة في صوته وعينيه- في طريقي نحو مدينة عدن لاقيت تعنتاً كبيراً في النقاط الأمنية، لم تخلُ من التوقف للتحقيق الذي ينتهي كل مرة بدفع مبلغ مالي.. وحين وصلت إلى عدن وبدأت بمعاملات استخراج الجواز، وأكملت الإجراءات الأولية من ادخال بيانات وغيرها، صدمني قولهم إن دفاتر الجوازات قد نفدت، وعلي دفع مبلغ 4 آلاف ريال سعودي (ألفين عن كل جواز) إن أردت أن أحصل على جوازين بشكل عاجل!”.
يتابع: “لم يكن في مقدوري الدفع فورًا، كوني تمكنت من جمع مبلغ العلاج بشق النفس، بعد أن بعت قطعة أرض كنت أملكها لإنقاذ حياة والدتي، وقبل أن أستلم جوازينا من عدن وصلني نبأ وفاة والدتي في صنعاء.. توفيت قبل أن أراها وقبل وداعها”.
ليس حامد سوى واحدٍ من عدد يتعذر حصره من اليمنيين، وقصة من قصصٍ تتشابه في المصير وتختلف في التفاصيل، بدءًا من مشقة الأسفار بين المحافظات مرورًا بسلسلة طويلة من الابتزاز في النقاط الأمنية ومراكز اصدار الجوازات في المحافظات، منهم السيدة نعمة (40 عامًا)، التي كان لها -كغيرها من قاصدي استخراج جواز السفر من اليمنيين- نصيب من سردية المعاناة.
تذكر نعمة أنه تعين عليها السفر نحو اثنتي عشرة ساعة من صنعاء إلى مدينة تعز، في رحلةٍ محفوفة بالمخاطر والعراقيل عبر طرق وعرة تجشّمَتْ عناءها من أجل استخراج جوازيّ سفر لها ولزوجها المريض الذي كان هو الآخر رفيقها في الرحلة، وكانت معاناته أشد بسبب مرضه.
“لبثنا شهرًا كاملًا في انتظار خروج الجواز، كي نحصل على تأشيرة علاجية للسفر بزوجي المريض إلى الأردن، كنت كل يوم من أيام الانتظار، أطالع في زوجي وحالته تشد سوءًا يومًا تلو آخر”، تقول نعمة.
تردف: “كنت أظن أن الحصول على جواز سفر لي ولزوجي المريض سيكون أمرًا سهلاً، ولكن ما قاسيناه برهن لي أن الحصول عليه وانتظار استلامه، كان أصعب من المرض ذاته، فقد تعب زوجي أثناء السفر وساءت حالته أكثر”.
.
اقتصاد السمسرة
منذ ربيع 2015م، أصبح حصول اليمنيين على الوثائق الشخصية وخصوصًا الجواز حقًا عسير المنال، إلى الحد الذي قد يكلف المرء حياته في رحلة الحصول عليه، نظرًا للتعقيدات والابتزاز والتواطؤ الرسمي وتعدد مناطق النفوذ، التي باعدت بين أسفار اليمنيين وحرمتهم من أبسط حقوقهم.
فمع استمرار الاضطراب الأمني والسياسي، وتقاسَم جغرافيا النفوذ بين أطراف النزاع في البلاد، أصبح الاستثمار في أوجاع اليمنيين ميدانًا لجميع الأطراف تقريبًا وإن بنسب متفاوتة للابتزاز والتربح، سواءً في النقاط والحواجز الأمنية التابعة لأطراف النزاع، التي تبرع في ابتزاز المسافرين واجبارهم على دفع مبالغ مالية للسماح لهم بالعبور، أم في مراكز اصدار الجوازات في المناطق الواقعة تحت سلطة الحكومة المعترف بها دوليا.
فبعد توقف مطار صنعاء كليًا في السنوات الماضية، وإلغاء صلاحية الجوازات الصادرة من صنعاء الوقعة ضمن سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وهي مناطق يتركز فيها النسبة الأكبر من سكان اليمن (بما يناهز 20 مليون نسمة)، أصبح استخراج الجواز مرهونًا بمكان صدوره، أي من المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليا، لذا أصبح أغلب الراغبين في الحصول على الجواز يضطرون إلى السفر إلى محافظات مثل عدن وتعز ومأرب وأحيانًا المهرة وحضرموت.
وذلك يقتضي رحلة شاقة طويلة بسبب وعورة الطرقات الطافحة بالحواجز الأمنية، ومن الممكن جدا أن يتعرض المرء في واحدة منها أو أكثر إلى التفتيش المستفز وانتهاك خصوصيات هواتفهم المحمولة إلى جانب الابتزاز والإهانة، وأحيانًا الاحتجاز التعسفي أو الاعتداء المباشر، لمجرد انتمائه الجغرافي/المناطقي.
أما في مراكز إصدار الجوازات، فثمة جولةٌ أخرى من المعاناة، تتمثل في تأخير إصدارها واصطناع بعض العراقيل بغرض اجبار المواطنين على دفع مبالغ مالية قد تتراوح في المتوسط ما بين 1000 – 1500 ريال سعودي، عدا ذلك، قد ينتظر طالب الجواز أسابيع عديدة حتى يفرج عن جوازه، وتلك المدة -في العادة- لا يطيقها أغلب الناس، خصوصًا الراغبين في السفر بشكل عاجل للعلاج أو الدراسة أو العمل وليس لديهم ترف الوقت للانتظار.
وكل ذلك لا يقل شقاءً وكلفة عن مشقة الأسفار وصلف النقاط الأمنية التي يتصرف عناصرها بهمجية قطّاع الطرق، مع غياب كامل لأي مرجع قانوني يحفظ للموطن جزءًا من حقوقه الشخصية المهدورة على قارعة اللهاث خلف حق الحصول على جواز سفر بحجم الكف.
في الجانب الآخر، نشأ نوع جديد من “اقتصاد السمسرة” حيث يقوم أشخاص يعملون في مكاتب سفريات وسياحة، بتقديم خدمات استصدار جوازات سفر من عدن أو مأرب أو غيرهما لمواطنين يقيمون في مناطق خاضعة لسيطرة حكومة أنصار الله/الحوثيين، دونما الحاجة إلى سفرهم إلى تلك المحافظات.
ولكن ذلك، يتطلب دفع مبالغ بين 100 ألف إلى 200 ألف ريال يمني (تقريبًا ما يعادل قيمته ما بين 200 – 400 دولار أمريكي). ومع ذلك، فإن المدة التي قد يستغرقها إصدار الجوازات بين أسبوعين إلى شهر، وهي مدة غير كافية بالنسبة للراغبين للسفر لأغراض قد لا تحتمل التأخير.
.
حق مسلوب وقانون معطل
المفارقة أن مصلحة الهجرة والجوازات اليمنية التابعة للحكومة المعترفة بها دوليًا، كانت حددت سعر الجواز بسبعة آلاف وخمسمئة ريال (14 دولارا)، لكن من يرغب بالحصول عليه في الوضع الحالي، فعليه أن يدفع أكثر للسماسرة في فروع المصلحة، التي أصبح العمل فيها مصدر ثراء ودخل، عن طريق الابتزاز وعرقلة جوازات المواطنين، وهو ما يعد مخالفة قانونية وتعدٍ صريح على حق المواطن في الحصول على الوثائق الشخصية التي يكفلها له الدستور والقانون اليمني.
في السياق تؤكد المحامية شيماء القرشي، أن حق الحصول على جواز السفر، يعد حقًا مكفولًا لكل مواطن يملك الجنسية اليمنية، حيث إن الدستور اليمني ولائحة قانون الجوازات قامت بتنظيم ذلك وفق أسس وضوابط مكتملة، تكفل لكل يمني الحصول على الوثائق الشخصية -بما فيها جواز السفر والهوية الشخصية- دون عراقيل أو تعقيدات.
“لكن لعل جزء من المشكلة، يعود إلى عدم وعي أغلب المواطنين في اليمن بحقوقهم البديهية، والإخلال بذلك الحق من جانب القائمين على مصلحة الجوازات من عرقلة للمواطنين واستغلالهم أو ابتزازهم ماليًا، يعد جريمة يعاقب عليها القانون”، بحسب القرشي.
ونتيجة لمجموع تلك التعقيدات والعوائق الاعتباطية التي تقف حائلًا شائكًا أمام قاصدي استخراج الجواز من اليمنين بوصفه حقًا بديهيًا يكفله القانون، أطلق مجموعة من الصحفيين ووسائل الإعلام المجتمعية المستقلة -المقروءة والمسموعة- وفي طليعتها إذاعة أثيرfm، حملة إلكترونية تحت وسم #اشتي_جواز، كاستجابة لأوجاع اليمنيين الذين ضاقوا ذرعًا من استمرار التعنت وتعقيد عملية الحصول على جواز السفر، دون أي مبرر أمني أو قانوني.
وتجدر الإشارة، إلى أن الجواز اليمني يتذيل قائمة أسوأ الجوازات في العالم من حيث عدد الدول التي تسمح لحامليه بدخول أراضيها، حيث يقبع في الترتيب الـ 102 عالميًا، كما يعد أحد أسوأ ثلاثة جوازات عربية، بيد أن ذلك لم يمنع المواطن اليمني من الانتفاض والجهر: أشتي جواز.
